الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.سورة آل عمران: مدنية وهي مائتا آية..تفسير الآيات (1- 2): {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)}{الم الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} قد سلف أن ما لا تكون من هذه الفواتح مفردةً كصاد وقاف ونون ولا موازِنةً لمفردٍ كحاميم وطاسين وياسين الموازنةِ لقابيلَ وهابيلَ وكطاسين ميم الموازنةِ لداراً بجَرَد حسبما ذكره سيبويهِ في الكتابِ فطريقُ التلفظ بها الحكايةُ فقط، ساكنةُ الأعجاز على الوقف سواءٌ جُعلت أسماءً أو مسرودةً على نمط التعديد وإن لزِمها التقاءُ الساكنين لما أنه مغتفرٌ في باب الوقف قطعاً فحقُّ هذه الفاتحة أن يوقفَ عليها ثم يُبدأ بما بعدها كما فعله أبو بكر رضي الله عنه، روايةٌ عن عاصم وأما ما فيها من الفتح على القراءة المشهورةِ فإنما هي حركةُ همزة الجلالة ألقيت على الميم لتدل على ثبوتها إذ ليس إسقاطُها للدرج بل للتخفيف، فهي ببقاء حركتها في حكم الثابتِ المبتدَإِ به، والميمُ بكون الحركةِ لغيرها في حكم الوقف على السكون دون الحركة كما توهم، واعتُرض بأنه غيرُ معهود في الكلام، وقيل: هي حركةٌ لالتقاء السواكن التي هي الياء والميم ولام الجلالة بعد سقوطِ همزتها، وأنت خبير بأن سقوطَها مبنيٌّ على وقوعها في الدرْج، وقد عرفت أن سكونَ الميمِ وقفٌ موجبٌ لانقطاعها عما بعدها مستدعٍ لثبات الهمزةِ على حالها لا كما في الحروف والأسماءِ المبنيةِ على السكون فإن حقَّها الاتصالُ بما بعدها وضعاً واستعمالاً فتسقطُ بها همزةُ الوصلِ وتُحرَّك أعجازُها لالتقاء الساكنين، ثم إن جُعلت مسرودةً على نمط التعديد فلا محل لها من الإعراب كسائر الفواتح، وإن جُعلت اسماً للسورة فمحلُها إما الرفعُ على أنها خبرُ مبتدإٍ محذوف، وإما النصبُ على إضمار فعلٍ يليقُ بالمقام كاذكر أو اقرأ أو نحوِهما، وأما الرفعُ بالابتداء أو النصبُ بتقدير فعلِ القسم، أو الجرُّ بتقدير حرفِه فلا مساغَ لشيء منها لما أن ما بعدها غيرُ صالح للخبرية ولا للإقسامِ عليه فإن الاسم الجليلَ مبتدأٌ، وما بعده خبرُه، والجملةُ مستأنفة أي هو المستحقُّ للمعبودية لا غيرُ وقوله عز وجل: {الحى القيوم} خبرٌ آخرُ له، أو لمبتدإٍ محذوف أي هو الحي القيومُ لا غيرُه، وقيل: هو صفةٌ للمبتدأ أو بدلٌ منه أو من الخبر الأول أو هو الخبر، وما قبله اعتراضٌ بين المبتدأ والخبر، مقرِّر لما يُفيده الاسمُ الجليلُ أو حال منه وأياً ما كان فهو كالدليل على اختصاص استحقاقِ المعبودية به سبحانه وتعالى لما مر من أن معنى الحيِّ: الباقي: الذي لا سبيل عليه للموت والفناء، ومعنى القيوم: الدائمُ القيام بتدبير الخلق وحفظِه، ومن ضرورة اختصاصِ ذينك الوصفين به تعالى اختصاصُ استحقاقِ المعبودية به تعالى لاستحالة تحققِه بدونهما.وقد روي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «اسمُ الله الأعظمِ في ثلاث سور: في سورة البقرة {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم} وفي آل عمران {الم * الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم} وفي طه {وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَىّ القيوم}». وروي أن بني إسرائيلَ سألوا موسى عليه السلام عن اسم الله الأعظم قال: {الحى القيوم} ويروى أن عيسى عليه السلام كان إذا أراد إحياء الموتى يدعو يا حي يا قيوم ويقال: إن آصفَ بنَ برخيا حين أراد أن يأتيَ بعرش بِلْقيس دعا بذلك وقرئ {الحى}، وهذا رد على من زعم أن عيسى عليه السلام كان رباً فإنه روي أن وفدَ نجرانَ قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ستين راكباً فيهم أربعةَ عشرَ رجلاً من أشرافهم، ثلاثةٌ منهم أكابرُ إليهم يؤولُ أمرُهم، أحدُهم أميرُهم وصاحبُ مشورتهم العاقبُ، واسمُه عبدُ المسيحِ وثانيهم وزيرُهم ومشيرُهم السيد واسمُهُ الأيهم، وثالثهم حَبرُهم وأُسْقفُهم وصاحبُ مِدْارَسِهِمْ أبو حارثةَ بنُ عَلْقمةَ أحدُ بني بَكْرِ بنِ وائلٍ وقد كان ملوكُ الرومِ شرّفوه وموّلوه وأكرموه لما شاهدوا من علمه واجتهاده في دينهم وبنَوْا له كنائسَ فلما خرجوا من نجرانَ ركِب أبو حارثة بغلته وكان أخوه كُرْزُ بنُ علقمةَ إلى جنبه فبينا بَغْلةُ أبي حارثةَ تسير إذ عثَرت فقال كُرْزٌ: تعساً للأبعد، يريد به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال له أبو حارثة: بل تَعِسَتْ أمُّك فقال كُرْزٌ: ولمَ يا أخي قال: إنه والله النبيُّ الذي كنا ننتظره فقال له كُرز: فما يمنعُك عنه وأنت تعلم هذا؟ قال: لأن هؤلاءِ الملوكَ أعطَوْنا أموالاً كثيرةً وأكرمونا، فلو آمنا به لأخذوها منا كلَّها، فوقع ذلك في قلب كرزٍ وأضمره إلى أن أسلم فكان يُحدِّث بذلك. فأتَوا المدينةَ ثم دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر عليهم ثيابُ الحِبَراتِ جُبَبٌ وأرديةٌ فاخرة يقول بعضُ من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا وفداً مثلَهم، وقد حانت صلاتُهم فقاموا ليصلوا في المسجد فقال عليه السلام: «دعُوهم» فصلَّوا إلى المشرق. ثم تكلم أولئك الثلاثةُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تارةً عيسى هو الله لأنه كان يُحيي الموتى ويُبرِىءُ الأكمهَ ويُخبرُ بالغيوب ويخلُق من الطين كهيئة الطير فينفُخُ فيه فيطير، وتارة أخرى هو ابنُ الله إذ لم يكن له أبٌ يُعْلَم وتارة أخرى إنه ثالثُ ثلاثةٍ لقوله تعالى: {فَعَلْنَا وَقُلْنَا} ولو كان واحداً لقال: فعلت وقلت فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسلموا قالوا: أسلمنا قبلك، قال عليه السلام: كذبتم يمنعُكم من الإسلام دعاؤكم لله تعالى ولداً. قالوا: إن لم يكن ولداً لله فمن أبوهُ؟ فقال عليه السلام: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولدٌ إلا ويُشبِهُ أباه؟ فقالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا حيٌّ لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى، قال عليه السلام: ألستم تعلمون أن ربنا قيّومٌ على كل شيء يحفَظُه ويرزُقُه؟ قالوا: بلى، قال عليه السلام: فهل يملِك عيسى من ذلك شيئاً؟ قالوا: لا، فقال عليه السلام: ألستم تعلمون أن الله تعالى لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى، قال عليه السلام: فهل يعلمُ عيسى من ذلك إلا ما علِم؟ قالوا: بلى، قال عليه السلام: ألستم تعلمون أن ربنا صوَّر عيسى في الرحِم كيف شاء وأن ربنا لا يأكلُ ولا يشرب ولا يُحْدِث؟ قالوا: بلى، قال عليه السلام: ألستم تعلمون أن عيسى حملتْه أمُه كما تحمِل المرأة ووضعته كما تضع المرأةُ ولدها ثم غُذّي كما يُغذَّى الصبيُّ ثم كان يطعَم الطعامَ ويشرَبُ الشراب ويُحْدِثُ الحدث؟ قالوا: بلى، قال عليه السلام: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا وأبَوا إلا جحوداً» فأنزل الله عز وجل من أول السورة إلى نيِّفٍ وثمانين آيةً تقريراً لما احتج به عليه السلام عليهم وأجاب به عن شُبَهِهم وتحقيقاً للحق الذي فيه يمترون..تفسير الآيات (3- 4): {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)}{نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} أي القرآنَ، عبّر عنه باسم الجنس إيذاناً بكمال تفوُّقه على بقية الأفراد في حيازة كمالاتِ الجنس كأنه هو الحقيقُ بأن يُطلَقَ عليه اسمُ الكتاب دون ما عداه كما يلوح به التصريحُ باسمي التوراةِ والإنجيل، وصيغة التفعيلِ للدَلالة على التفخيم، وتقديمُ الظرف على المفعول لما مر من الاعتناءِ بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر، والجملة إما مستأنفةٌ أو خبرٌ آخرُ عن الاسمِ الجليل أو هي الخبر، وقولُه تعالى: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} اعتراض أو حال، وقوله عز وجل: {الحى القيوم} صفةٌ أو بدلٌ كما مر، وقرئ {نَزَلَ عليك الكتابُ} بالتخفيف ورفعِ الكتاب، فالظاهرُ حينئذ أن تكونَ مستأنفةٌ وقيل: يجوزُ كونُها خبراً بحذف العائد أي نزَل الكتابُ من عنده {بالحق} حال من الفاعل أو المفعول أي نزّله مُحِقاً في تنزيله على ما هو عليه أو ملتبساً بالعدل في أحكامه أو بالصدق في أخباره التي من جملتها خبرُ التوحيد وما يليه، وفي وعده ووعيدِه أو بما يحقِّق أنه من عند الله تعالى من الحجج البينة {مُصَدّقاً} حال من الكتاب بالاتفاق على تقدير كون قولِه تعالى: {بالحق} حالاً من فاعل نزّل، وأما على تقدير حاليته من الكتاب فهو عند من يجوِّز تعددَ الحال بلا عطف ولا بدلية حالٌ منه بعد حال، وأما عند من يمنعه فقد قيل: إنه حالٌ من محل الحال الأولى على البدلية وقيل: من المستكنّ في الجار والمجرور، لأنه حينئذ يتحمّل ضميراً لقيامه مقامَ عاملِه المتحمّل له فيكون حالاً متداخلةً، وعلى كل حال فهي حالٌ مؤكدة، وفائدةُ تقييدِ التنزيل بها حثُّ أهلِ الكتابين على الإيمان بالمُنَزّل وتنبيهُهم على وجوبه فإن الإيمانَ بالمصدَّق موجبٌ للإيمان بما يصدِّقه حتماً {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} مفعول لمصدقاً واللامُ دِعامةٌ لتقوية العمل نحوُ {فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} أي مصدقاً لما قبله من الكتب السالفةِ وفيه إيماءٌ إلى حضورها وكمال ظهورِ أمرِها بين الناس، وتصديقُه إياها في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد وتنزيهُ الله عز وجل عما لا يليق بشأنه الجليل والأمرُ بالعدل والإحسان وكذا في أنباء الأنبياءِ والأممِ الخالية وكذا في نزوله على النعت المذكور فيها وكذا في الشرائع التي لا تختلف باختلاف الأممِ والأعصار ظاهرٌ لا ريب فيه أي خبر تصديقه لا ريب فيه وأما في الشرائع المختلفة باختلافهما فمن حيث أن أحكامَ كل واحد منها واردةٌ حسبما تقتضيه الحِكمةُ التشريعية بالنسبة إلى خصوصيات الأمم المكلفةِ بها مشتملةٌ على المصالح اللائقةِ بشأنهم.{وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} تعيينٌ لما بين يديه وتبيينٌ لرفعة محلِّه تأكيداً لما قبله وتمهيداً لما بعده إذ بذلك يترقى شأنُ ما يصدّقه رفعةً ونباهةً ويزداد في القلوب قبولاً ومهابةً ويتفاحش حالُ من كفرَ بهما في الشناعة واستتباعِ ما سيذكر من العذاب الشديد والانتقام، أي أنزلهما جملةً على موسى وعيسى عليهما السلام وإنما لم يُذكرا لأن الكلام في الكتابين لا فيمن أنزِلا عليه وهما اسمان أعجميانِ الأولُ عِبري والثاني سرياني ويعضُده القراءةُ بفتح همزةِ الإنجيل فإن إفعيل ليس من أبنية العربِ، والتصدي لاشتقاقهما من الورى والنجْل تعسفٌ {مِن قَبْلُ} متعلق بأنزل أي أنزلهما من قبل تنزيلِ الكتاب، والتصريحُ به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان {هُدًى لّلنَّاسِ} في حيز النصب على أنه عِلة للإنزال أي أنزلها لهداية الناس أو على أنه حالٌ منهما أي أنزلهما حالَ كونهما هدى لهم، والإفرادُ لما أنه مصدر، جُعلا نفسَ الهدى مبالغةً أو حذف منه المضاف أي ذوَيْ هدى، ثم إنْ أريد هدايتهما بجميع ما فيهما من حيث هو جميع، فالمراد بالناس الأمم الماضية من حين نزولها إلى زمان نسخِهما، وإن أريد هدايتُهما على الإطلاق وهو الأنسبُ بالمقام فالناسُ على عمومه لما أن هدايتهما بما عدا الشرائعَ المنسوخةَ من الأمور التي يصدّقهما القرآن فيها ومن جملتها البشارةُ بنزوله وبمبعث النبي صلى الله عليه وسلم تعمُّ الناس قاطبة.{وَأَنزَلَ الفرقان} الفرقانُ في الأصل مصدرٌ كالغفران أُطلق على الفاعل مبالغة والمرادُ به هاهنا إما جنسُ الكتبِ الإلهية عُبِّر عنها بوصف شامل لما ذُكر منها وما لم يُذكر على طريق التتميم بالتعميم إثرَ تخصيصِ بعضِ مشاهيرها بالذكر كما في قوله عز وجل: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً} إلى قوله تعالى: {وفاكهة} وإما نفسُ الكتبِ المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص لم يُذكر فما سبق، على طريقة العطفِ بتكرير لفظِ الإنزال تنزيلاً للتغايُر الوصفي منزلةَ التغايُر الذاتي كما في قوله سبحانه: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} وأما الزبورُ فإنه مشتمِلٌ على المواعظ الفارقة بين الحقِّ والباطِلِ الداعية إلى الخير والرشاد الزاجرةِ عن الشر والفساد، وتقديمُ الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولاً لقوة مناسبته للتوراة في الاشتمال على الأحكام والشرائع وشيوعِ اقرانِهما في الذكر وأما القُرآنُ نفسُه فذُكر بنعت مادحٍ له بعد ما ذكر باسم الجنس تعظيماً لشأنه ورفعاً لمكانه وقد بُين أولاً تنزيلُه التدريجيُّ إلى الأرض وثانياً إنزالُه الدفعيّ إلى السماء الدنيا أو أريد بالإنزال القدْرُ المشترك العاري عن قيد التدريج وعدمِه، وإما المعجزاتُ المقرونةُ بإنزال الكتبِ المذكورة الفارقة بين المُحقِّ والمُبْطل {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله} وُضع الموصول موضِعَ الضميرِ العائد إلى ما فُصل من الكتب المنزلة أو منها ومن المعجزات وآيات مضافةً إلى الاسم الجليل تعييناً لحيثية كفرِهم وتهويلاً لأمرهم وتأكيداً لاستحقاقهم العذابَ الشديد وإيذاناً بأن ذلك الاستحقاقَ لا يشترط فيه الكفرُ بالكل بل يكفي فيه الكفرُ ببعضٍ منها، والمرادُ بالموصول إما أهلُ الكتابين وهو الأنسبُ بمقام المُحاجةِ معهم أو جنسُ الكفَرة وهم داخلون فيه دخولاً أولياً أي إن الذين كفروا بما ذُكر من آيات الله الناطقةِ بالحق لاسيما بتوحيده تعالى وتنزيهِه عما لا يليق بشأنه الجليل كُلاًّ أو بعضاً مع ما بها من النعوت الموجبةِ للإيمان بها بأن كذبوا بالقرآن أصالةً، وبسائر الكتُب الإلهية تبعاً، لما أن تكذيبَ المصدق موجب لتكذيب ما يصدِّقُه حتماً وأصالة أيضاً بأن كذبوا بآياتها الناطقةِ بالتوحيد والتنزيه وآياتها المبشرة بنزولِ القرآن ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم وغيّروها {لَهُمْ} بسبب كفرهم بها {عَذَابِ} مرتفعٌ إما على الفاعلية من الجار والمجرور أو على الابتداء، والجملة خبرُ إن، والتنوينُ للتفخيم أي أيُّ عذاب {شَدِيدٍ} لا يقادَر قدرُه وهو وعيد جيء به إثرَ تقريرِ أمرِ التوحيد الذاتي والوصفي والإشارةِ إلى ما ينطِقُ بذلك من الكتب الإلهية حملاً على القبول والإذعان وزجراً عن الكفر والعصيان.{والله عَزِيزٌ} لا يغالَب يفعل ما يشاء ويحكُم ما يريد {ذُو انتقام} عظيم خارجٍ عن أفراد جنسه، وهو افتعال من النِقْمة وهي السطوةُ والتسلطُ يقال: انتقم منه إذا عاقبه بجنايته، والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ للوعيد ومؤكد له..تفسير الآيات (5- 6): {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)}{إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شيء فِي الارض وَلاَ فِي السماء} استئنافُ كلامٍ سيق لبيان سعةِ علمِه تعالى وإحاطتِه بجميع ما في العالم من الأشياء التي من جملتها ما صدر عنهم من الكفر والفسوقِ سراً وجهراً إثرَ بيانِ كمالِ قدرتِه وعزته، تربيةً لما قبله من الوعيد وتنبيهاً على أن الوقوفَ على بعض المغيبات كما كان في عيسى عليه السلام بمعزل من بلوغ رتبةِ الصفاتِ الإلهية وإنما عُبّر عن علمه عز وجل بما ذُكر بعدم خفائِه عليه كما في قوله سبحانه: {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شيء في الارض وَلاَ فِي السماء} إيذاناً بأن علمَه تعالى بمعلوماته وإن كانت في أقصى الغايات الخفيةِ ليس من شأنه أن يكون على وجهُ يمكن أن يقارِنه شائبةُ خفاءٍ بوجه من الوجوه كما في علوم المخلوقين، بل هو غاية في الوضوحِ والجلاءِ، والجملةُ المنفيةُ خبرٍ لإن وتكريرُ الإسنادِ لتقوية الحُكم، وكلمة (في) متعلقة بمحذوف وقع صفةً لشيء مؤكدة لعمومه المستفاد من وقوعه في سياق النفي أي لا يخفى عليه شيء ما كائنٌ في الأرض ولا في السماء أعم من أن يكون ذلك بطريق الاستقرار فيهما أو الجزئية منهما وقيل: متعلقة بيخفى وإنما عبر بهما عن كل العالم لأنهما قُطراه، وتقديمُ الأرض على السماء لإظهار الاعتناء بشأن أحوالِ أهلِها، وتوسيطُ حرف النفي بينهما للدَلالة على الترقي من الأدنى إلى الأعلى باعتبار القربِ والبعد منا المستدعِيَين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا وقوله عز وجل: {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الارحام كَيْفَ يَشَاء} جملة مستأنفةٌ ناطقةٌ ببعض أحكام قيّومَّيتِه تعالى وجَرَيانِ أحوالِ الخلق في أطوار الوجودِ حسب مشيئتِه المبنيةِ على الحِكْمة البالغةِ مقرِّرةٌ لكمال علمِه مع زيادة بيانٍ لتعلقه بالأشياء قبل دخولِها تحت الوجود ضرورةَ وجوبِ علمِه تعالى بالصور المختلفة المترتبة على التصوير المترتِّب على المشيئة قبل تحقّقِها بمراتب، وكلمةُ في متعلقةٌ بيصوِّركم، أو بمحذوف وقع حالاً من ضمير المفعول أي يصوركم وأنتم في الأرحام مُضَغٌ، وكيف معمول ليشاءُ والجملةُ في محل النصب على الحالية إما من فاعل يصوركم أي يصورُكم كائناً على مشيئته تعالى أي مُريداً أو من مفعوله أي يصوركم كائنين على مشيئته تعالى تابعين لها في قَبول الأحوالِ المتغايرة من كونكم نُطفاً ثم عَلَقاً ثم مُضَغاً غيرَ مخلّقة ثم مُخلّقة، وفي الاتصاف بالصفات المختلفةِ من الذكورة والأنوثة والحُسن والقُبح وغير ذلك من الصفات وفيه من الدلالة على بطلان زعْم من زَعَم ربوبيةَ عيسى عليه السلام وهو من جملة أبناءِ النواسيتِ المتقلّبين في هذه الأطوار على مشيئة الباري عز وجل وكمالِ ركاكةِ عقولِهم ما لا يخفى وقرئ {تَصَوَّركم} على صيغة الماضي من التفعل أي صوّركم لنفسه وعبادتِه {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} إذ لا يتصف بشيء مما ذُكر من الشؤون العظيمةِ الخاصةِ بالألوهية أحدٌ ليُتَوهَّم ألوهيتُه {العزيز الحكيم} المتناهي في القدرة والحِكمة لذلك يخلقُكم على ما ذكر من النمط البديع.
|